مهمات خطيرة
تأسس حـزب البعث العـربي الاشتراكي في ليبيا، في اوائل الخمسينيات، وكان من أبـرز مؤسسيه في ليبيا المرحوم عامر الطاهر الدغيس ، ولم تكـن مسيرة الحزب الذى كان من انشط الاحزاب السرية فى ليبيا واكثرها تنظيما وتأثيرا على الاوضاع السياسية سهلة وميسرة حيث تعرض لإنتكاسات وحملات أستهدفت ومنتسبيه ، سواء اثناء العهد الملكى أو فى عهد النظام الجمهوري إلا أن العهـد الملكى ( للتاريخ ) لـم يكن قاسيا أودمويا فى التعامل مع قياداته
فى منصف عام 1961 خلال فترة سلطة العهد الملكي فى ليبيا اعتقـل عدد كبير من قيادات حـزب البعث العربى الاشتراكى في كل المدن الليبية وكانت بداية الاعتتقالات قد تمت فى العاصمة طرابلس فجر يوم الاحد الموافق 23 يوليو 1961 وذلك فى اعقاب توزيع عـدد من المناشير المنددة بالنظام الملكى وببعض رموزه ،وكان حـزب البعث العـربي الاشتراكي قد تأسس في ليبيا، في اوائل الخمسينيات، وكان من أبـرز مؤسسيه المرحوم عامر الطاهر الدغيس ،و كان من انشط الاحزاب السرية فى ليبيا واكثرها تنظيما وتأثيرارغم تعرضه لإنتكاسات وحملات أستهدفت قياداته ومنتسبيه ، سواء اثناء العهد الملكى أو فى عهد النظام الجمهوري
وقد عاصرت شخصيا أحداث تلك الاعتقالات فى طرابلس حيث كنت فى زيارة للعاصمة لظروف صحية أجريت لى خلالها عملية جراحية على عينى اليسرى من قبل البروفسور الايطالي ” فيرارس ” وكنت حينها ضيفا على أسرة إبن عمى المرحوم الحاج صفى الدين إدريس الامام ، وصادف تواجـدى فى طرابلس خلال تلك الفترة تواجد زميلى الطالب بالجامعة الليبية فى بنغازى نصر الدين محمود الذي كانت تربطنى به علاقة صداقة وزمالة وثيقة وكان يزورنى اثناء فترة النقاهة من العملية الجراحية فى بعض الاحيان بمنزل قريبى بطرابلس او يجمعنا لقاء بأحد مقاهى العاصمة نتبادل خلاله الاحاديث والهدرزة عن اخر الاخبار والمستجدات على الساحة الليبية
وفى ظهر يوم الاحد الموافق 23 /07 /1961 فوجئت باتصال هاتفى منه على غير توقع يلح فيه على رؤيتى عاجلا خاصة وانه على علم باننى عائد الى بنغازى صباح يوم الأثنين الموافق 24 ، وفعـلا تم اللقاء بيننا فى مقهى الفردوس ، وبعـد أن ارتشفنا معا فنجانيى الكابو تشينو كالعادة فى ركن داخلى منزوى من المقهي أخبرنى بامر الاعتقالات الامنية التى قامت بها شرطة العاصمة طرابلس والتى طالت عدد من قيادات ومنتسبى حزب البعث العربى الاشتراكى ، وذلك عقب الانتشار الواسع لعدد من المناشير فى مدينة طرابلس فجر يوم الاحد 23 يوليو المنددة بالنظام الملكي وبعدد من رموزه ، وطلب منى اثناء ذلك اللقاء كصديق مقرب له – ان أمكن – مساعدته فى حمل رسالة شفهية سرية عاجلة لعلم صديقه الاستاذ حمى فريد او صديقه محمد الجرارى فى بنغازى وهما كما اخبرنى من قيادات حزب البعث فى بنعازى تتضمن احاطتهم ب علما بخبر الاعتقالات فى طرابلس وتحذيرهم باعدام كافة الوثائق والمستندات التى بحوزتهم ، واكد لى بانه أختارنى للقيام بهذه المهمة لثقته التامة فى شخصى ، وثانيا لكونى من مواطنى المنطقة الشرقية سوف لن تحوم اى شبهات حول سفرى من طرابلس الى بنغازى خلال تلك الفترة التى شهدت انتشار امنى مكثف فى طرابلس تتبعا لعناصر حزب البعث العربى الاشتراكى ، وثالثا انني الوسيلة الاسرع والآمنة المتاحة لنقل خبر الاعتقالات الى زملائه فى بنغازى حيث ان سفرى سيكون صباح يوم الاحد الموافق 24 يوليو
والحقيقة أبديت فى البدء ترددا للقيام بهذه المهمة الغير معروف عواقبها خاصة وأننى لست من منتسبى حزب البعث العربى الاشتراكى ولست مجبرا ايدولوجيا للقيام بها رغما عن عمق صداقاتى وعلاقاتى الطيبة مع كثير منتسبي الحزب داخل الجامعه الليبية فى بنغازى ، وكذلك فى نفس الوقت خوفا من ان يكون زميلى نصر الدين محمود موضوع تحت المراقبة من قبل رجال الأمن ، وبالتالي اتعرض للخطر وأجد نفسى متورطا فى قضية لا ناقة لى فيها ولا جمل ، ولكن تحت الحاح الزميل نصر الدين وتأكيداته لى بأنه شخصيا ليس محل شبهات من رجال الامن فى طرابلس ابديت موافقتي على القيام بهذه المهمة الصعبة و طمنته بانى سأنفذها عاجلا بمجرد سلامة وصولى الى مدينة بنغازى
وفعلا بمجرد وصولى الى مدينة بنغازى مكلفا بمسؤولية حمل هذه الأمانة حاولت الإتصال بالأستاذ محمد حمى الذي لم أكن على معرفة مسبقة بشخصه ، لتامين اللقاء لابلاغه بفحوى الرسالة ولكنى للاسف فشلت في تأمين الإتصال الهاتفي به فاتصلت علي الفور بالزميل محمد الجرارى الذي التقيت به ، وأبلغته بفحوى الرسالة الشفوية فى حينها وامكانية نقلها لزملائه فى مدينة درنه ، فشكرنى علي ذلك ، ثم بعد ان اديت مهمتى وأبلغت الرسالة توجهت الى سكنى للراحة من عناء السفر
وعلمت بعد ذلك ان الرسالة الشفهية العاجلة الموجهة من قبل الاستاذ نصر الدين محمود بطرابلس الى الاستاذ محمد الجرارى ساهمت بشكل كبير فى أخذ الحيطة والحذر من قبل قيادات الحزب فى كل من بنغازى ودرنه ، ولم يعثر رجال الأمن عند القبض علي افراد الحزب وتفتيش بيوتهم ومكاتبهم على أى مستندات او مراسلات تدينهم ….إلا أنهم رغما عن ذلك تعرض بعض من كان اسمه مدرجا ضمن قوائم الحزب التي عثر عليها في طرابلس ، وتعرض هؤلاء للاعتقال والسجن لمدد قصيرة تراوحت مابين 6 اشهر وثلاثة اعوام ، الامر الذي تسبب بعد ذلك فى تجميد نشاط الحزب
الا ان الحزب عاود نشاطه بزخـم أقـوى وأشـد ضراوة خلال عام 1969 واستعاد عافيته فى مواجهة النظام العسكرى وتصدرت قياداته ومنتسبية حملة المقاومة والعصيان ضد النظام عام 1980 فى الداخل والخارج مما تسبب فى تتبع وملاحقة قياداته ومنتسبيه وتعرضوا من جديد الى حملة بشعه وشرسة من الإعتقالات والإغتيالات راح ضحيتها ، عدد من رموز قيادت الحزب مثل الاساتذه “ عامر الدغيس ، حسين الصغير ، محمد حمي ، محمود بانون ، مصطفى النويرى ، احمد عبدالسلام ابورقيعه و محمد الصادق هلال الذى لم يعرف مصيره حتى الآن بالاضافة الى مجموعة أخرى من العسكريين
وفى آخر عام 1980 نجح انصار حزب البعث ومنتسيبه فى ليبيـا، بالتعـاون مع مجموعة من الناصريين والقوميين العرب والوطنيين أالليبيين بالخارج ، فى الاعلان عن تأسيس ” الحركة الوطنية الليبية ” التى سعـت الى ربط حركة النضال الوطنى بين مختلف التحالفات السياسية الوطنية الليبية التي تؤمن بـحرية الرأي و الصحافة و العمل السياسي وتأسيس الاحزاب عبر دستور عصري يبنى علي السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية… و قد ترأس هذا التحالـف الشهيـد منصـور رشـيد الكيخيـا ، وذلك بعد أن أعتذر عبد المنعم الهونى عن ترأسه ، وكانت مجلة صوت الطليعة التى كانت تطبع فى بغداد وقبرص تعتبر لسان حال الحركة الوطنية الليبية المعبرة عن توجهاتها الى جانب صدور عدد من النشرات الاخبارية الاخرى التى كانت توزع بصورة دورية كنشرة الرقيب الليبى ، والمهاجر الليبي، والمواطن الليبي، والمنبر الليبي، التي كان يصدرها أنصار الحركة في كل من بريطانيا ، أمريكا، اليونـان، مصـر والسويـد
واذكـر بهـذه المناسبة ان السلطات الليبية ممثلة بالمكتب الشعبى الليبى باليونـان طلبت رسميا من السلطات اليونانية منع بيع وتوزيع مجلة “ صوت الطليعة ” فى الاكشاك اليونانية وارسلت السلطات الليبية عـدد من قطـع السجاد الليبى الفاخر المنتتج من مصنع بنى وليد وبعض الهدايا الى وزير الاعلام اليونانى لحثه على التجاوب مع طلباتها… ولكن كان رد السلطات اليونانية مخيبا للمكتب الشعبى ، عندما أعربوا ولهم عن أسفهم على عدم قدرتهم على منع دخول او توزيع هذه المجلة ، حيث ان اليونان بلد ديموقراطى يؤمن بحرية الراى ولا يستطيع منع او تقييد الاعلام او الصحف اليونانية او الاجنبية من دخول اليونان
وامام هذا الرفض من قبل السلطات اليونانية تفتـق ذهـن خبـراء اللجـان الثورية بالمكتب الشعبى الليبى باليونـان بعـد أن فشلوا فى مصادرة ومنع دخول مجلة صوت الطليعة الى اليونان او توزيعها عـن فكرة أعتقـدوا أنها فكرة ذكية ستقضى على توزيع المجلة فى اليونان، فجنـدوا عـدد من الطلبة والعاملين المحليين بالمكتب الشعبى لشراء كل أعـداد المجلة وسحبها من الاكشاك عند صدورها اوورودها لليونان ..وعملوا على تجميعها وحرقها بالمكتب الشعبى… إلا ان أصحاب الاكشاك عندما فوجئوا بهذا الإقبال على شراء المجلة من أكشاكهم اعتبروا هذا التزاحم على شراء المجلة بهذه الصورة الفريدة هو بمثابة ” شعبية ” ورواج لللمجلة فزادوا فى اعداد الكميات المعروضة … كما ان الكميات المشتراه والتى كانت تجمع من قبل المكتب الشعبى بغرضحرقها لم تحرق كلها وتم تسريب اعداد منها لتوزع من جديد بين المواطنين الليبيين
ويعتبر كتاب “نماذج من جرائم القذافي” الذى كتبه المرحوم الشاب “ناصر مسعود دريزة ” فى الثمانينات والذى لم يشهر اسمه كمؤلف للكتاب المذكور خلال تلك الفترة حفاظا على حياته بسبب تواجده داخل التنظيم السرى للحركة الوطنية فى ليبيا ، يعتبر من أهم اصدارات الحركة الوطنية الليبية، نظراً لمصداقية ودقة المعلومات التي وردت فيه والتى شاهـدها المرحوم عبد الناصر مسعود دريزه بأم عينيه فى معسكر السابع من ابريل ببنغازى ، والتى ذكرها فى كتابه على لسان شاهـد عيان، حيث تحـدث الكتاب عن ابشع مظاهر التعذيب التى مورست فى حق المواطنين الليبيين في أوائل الثمانينيات ، وكنت عن طريق الصدفة قد تعرفت بالمرحوم عبد الناصر عندما جمعتنا عدة لقاءات في بيت صهره الأستاذ على فضيل باليونان ..وتوطدت بينى وبينه صداقة وثقة شجعته على ان يبوح لى بأنه لديه كتاب سياسي خطير يود طباعته ونشره ، وطلب منى مساعدته إن أمكن عن طريق من أثق بهم من الزملاء الليبيين المتواجدين على الساحة اليونانية وفى الحقيقة ترددت في البدء عن القيام بهذه المهمة الصعبة خلال تلك الظروف القاسية ، خاصة وأن اليونان تعتبر بؤرة جاذبة لنشاط مخابرات النظام الليبي الذي يجد الدعم والمؤازرة من قبل حكومة الزعيم اليوناني اندرياس با باندريو
عن قد اشرفت شخصيا على مراجعة مسودة هذا الكتاب عندما قدمت لى لأول مرة مكتوبة بخط اليد من قبل المرحوم عبد الناصر لمراجعتها وتسليمها بعد المراجعه و تنقيحها للطباعة والنشر حيث استلمها الاستاذ محمد السكر الذى قدم الى اليونان من اجل استلامها يد بيد من المرحوم عبد الناصر خـلال اجتماع ضـم ثلاثتنا فقط بمنطقة “كيفسيا” بالعاصمة اليونانية
وأسهم الاستاذ محمد السكر بجهد كبير فى طباعة ونشر وتوزيع هذا الإصدار الهام عن طريق الحركة الوطنية الليبية غير ان هذا الكتاب للاسف لازال لم يحمل اسم مؤلفه الاستاذ عبد الناصر دريزة حتى يومنا هذا ولا زال يوزع تحت أسم مؤلفه المستعار ” شاهد عيان” ولم تعمل الحركة الوطنية ” ان كانت لاتزال على قيد الحياة ” على إعادة طباعته ونشره وتوزيعه تحت اسم مؤلفه الحقيقى ويقال انه بسبب صدور هذا الكتاب الى أزعج النظام ازعاجا كبيرا تعرض الاستاذ عبد الناصر دريزة لمؤامرة مدبرة تم فيها استدراجه من اليونان الى ليبيا عن طريق زميل له من اعضاء اللجان الثورية كان يدرس بالخارج حيث تم تسميمه اثناء حفل غداء خاص كان قد اقيم بمدينة سرت حضره العقيد معمر القذافى واحمد ابراهيم وعدد من مرموقى النظام المقربين ….فتسبب له هذا التسمم فى الام حادة بالمعدة وتم اعتقاله وهو يعانى من تلك الألام فى استراحة الراية الخضراء واستدعى طبيب خاص مقرب من النظام كان قد حقنه حينها فى الاستراحة بحقنة مشكوك فيها لتخفيف الالم .ولكن يقال انها تسببت فى تضخم عضلة القلب ، وارسل من قبل صهره المقيم باليونان للعلاج فى بريطانيا عند الدكتور مجدي يعقوب ، إلا أن الدكتور مجدي يعقوب أفاد باستحالة علاجه وأنه لا أمل فى شفائه فتوفى رحمه الله بعد عودته إلى مدينة المرج ….ولازال موضوع مرض الاستاذ عبد الناصر دريزة مؤلف كتاب ” نماذج من جرائم القذافي ” فجأة بتضخم عضلة القلب بعد ذلك الغداء الأسود فى مدينة سرت ثم وفاته بهذا المرض يكتنفه الغموض حتى يومنا هـذا …. ونسأل الله له الرحمة والغفـران